الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)} قوله عز وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} يعني: وأرسلنا لوطاً عطفاً على قوله، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ} ويقال معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه يعني: حين قال لقومه. قوله عز وجل {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال * شَهْوَةً} يعني: تجامعون الرجال شهوة منكم {مّن دُونِ النساء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي جاهلون {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} وإنما نصب الجواب، لأنه خبر كان واسمه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن} يعني: يتنزهون ويقذروننا بهذا الفعل، وإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن أعمالنا. قال الله تعالى: {فأنجيناه وَأَهْلَهُ} يعني: ابنتيه ريثا وزعورا {إِلاَّ امرأته} لم ننجها من العذاب {قدرناها} أي: تركناها {مِنَ الغابرين} أي: من الباقين في العذاب. ويقال: قضينا عليها أنها من الباقين في العذاب قوله عز وجل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} يعني: الحجارة {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} يعني: بئس مطر من أنذرتهم الرسل، فلم يؤمنوا. ثم قال عز وجل: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ} قال بعضهم: معناه قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم {قُلِ الحمد لِلَّهِ} وقال بعضهم: معناه الحمد لله على هلاك كفار الأمم الماضية. يعني: ما ذكر في هذه السورة من هلاك فرعون وقومه، وثمود وقوم لوط. ويقال: قال: الحمد لله الذي علمك، وبيّن لك هذا الأمر. ويقال: إن هذا كان للوط حين أنجاه، أمره بأن يحمد الله تعالى. ثم قال: {وسلام على عِبَادِهِ} يعني: المرسلين {الذين اصطفى} يعني: اختارهم الله تعالى للرسالة والنبوة. وروي عن مجاهد أنه قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال مقاتل. وقال سفيان الثوري: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: {الله خَيْرٌ *** أَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني: الله تعالى أفضل أم الآلهة التي تعبدونها، اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير يعني: الله تعالى خير لهم مما يشركون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» ويقال: معناه أعبادة الله خير أم عبادة ما يشركون به من الأوثان. وقال القتبي: {الله خَيْرًا * أَمَّا يُشْرِكُونَ}. يعني: أم من يشركون؟ فتكون ما مكان من كما قال: {والسمآء وَمَا بناها} [الشمس: 5] يعني: ومن بناها {وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} [الليل: 3] يعني: ومن خلق.
{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)} ثم قال عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والارض **وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء} يعني: المطر {فَأَنبَتْنَا بِهِ} يعني: بالمطر {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} يعني: البساتين واحدها حديقة، وإنما سميت حديقة لأنها محاطة بالحيطان. وقال بعضهم: إذا كانت ذا شجر يقال لها: حديقة سواء كان لها حائط، أو لا {ذَاتَ بَهْجَةٍ}، يعني: ذات حسن {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} يعني: ما كان لمعبودكم قوة. ويقال: ما كان ينبغي لكم أن تنبتوا شجرها. ويقال: ما قدرتم عليه، وقرأ أبو عمرو وعاصم: أما يشركون بالياء على معنى الخبر. وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {قدرناها} بتخفيف الدال، والباقون بالتشديد. ثم قال: {مَّعَ الله بَلْ} يعينه على صنعه اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإنكار والزجر {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يعني: يشركون الأصنام ثم قال عز وجل: {أَمَّن جَعَلَ الارض قَرَاراً} يعني: مستقراً لا تميد بأهلها. ويقال: قراراً أي سكناً لأهلها {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً} أي: فجر بسواد الأرض أنهاراً. ويقال: شقّ بينهما أنهاراً {وَجَعَلَ لَهَا} أي خلق لها {رَوَاسِىَ} أي: خلق للأرض الجبال الثوابت {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} يعني: العذب والمالح حاجزاً يعني: ستراً مانعاً بقدرته لا يختلطان بعضهما في بعض {مَّعَ الله بَلْ} يعينه على صنعه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: ولكن أكثرهم لا يعلمون بتوحيد الله عز وجل {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} يعني: أمن يستجيب في البلاء للمضْطَّر إذا دعاه {وَيَكْشِفُ السوء} يعني: ومن يكشف الضر {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الارض} يعني: سكان الأرض بعد هلاك أهلها {مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن} قرأ أبو عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين بالياء على معنى الخبر عنهم. وقرأ الباقون {تَذَكَّرُونَ} بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال. وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية قالون: {مَّعَ الله بَلْ} بالهمز والمد. وقرأ الباقون: بغير مد بهمزتين. ثم قال عز وجل: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر} يعني من يرشدكم في أهوال البر والبحر. {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} يعني: قدام المطر {مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن} أي: تعظم الله عما يشركون {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} يعني: خلقهم، ولم يكونوا شيئاً، ثم يعيدهم في الآخرة {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء} يعني: المطر {والارض} يعني: النبات {مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن} يعني: حجتكم وعلتكم، بأنه صنع شيئاً من هذا غير الله {إِن كُنتُمْ صادقين} بأن مع الله آلهة أخرى {قُلْ} يا محمد لكفار مكة {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والارض} من الملائكة والناس {الغيب إِلاَّ الله} يعني: متى تقوم الساعة إلا الله رفع على معنى البدل، فكأنه يقول: لا يعلم أحد الغيب إلا الله، أي لا يعلم ذلك إلا الله {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} يعني: متى يبعثون ومتى يبعثون قوله عز وجل: {بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ادرك}. قرأ الباقون {أَدْرَاكَ} بالألف، فمن قرأ أدرك، فمعناه أدرك علمهم علم الآخرة. وروي عن السدي قال: اجتمع علمهم يوم القيامة، فلم يشكوا، ولم يختلفوا ويقال: معناه علموا في الآخرة أن الذين كانوا يوعدون حق، ولا ينفعهم ذلك. ومن قرأ {أَدْرَاكَ} فأصله تدارك فأدغم التاء في الدال، وشددت وأدخلت ألف الوصل، ليسلم السكون للدال، ومعناه تتابع علمهم، أي حكمهم على الآخرة، واستعمالهم الظنون في علم الآخرة، فهم يقولون تارة: إنها تكون، وتارة لا تكون الساعة. ويقال: معناه تدارك، أي تكامل علمهم يوم القيامة بأنهم يبعثون، ويشاهدون ما وعدوا {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا} أي: من قيام الساعة في الدنيا {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} يعني: يتعامون عن قيامها. ويقال: بل هم منها عمون، أي من علمها جاهلون. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ، {بَلِ *** أَدْرَاكَ} وهذه القراءة أشد إيضاحاً، للمعنى الذي ذكرناه. ثم حكى قول الكفار فقال عز وجل: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ} يعني: أحياء من القبور {لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} يعني: هذا الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم: {نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا} الذي يقول {إِلاَّ أساطير الاولين} يعني: أحاديث الأولين وكذبهم، مثل حديث رستم واسفنديار. ويقال: إن هذا إلاَّ مثل رسل الأولين مما كذبوا.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)} قوله عز وجل: {قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَاْنظُرُواْ} يعني: فاعتبروا {كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} يعني: آخر أمر المشركين {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إن لم يؤمنوا، بل ويقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على تكذيبهم وإعراضهم عنك {وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ} يعني: لا يضيق صدرك {مّمَّا يَمْكُرُونَ} يعني: بما يقولون من التكذيب. ويقال: ولا يضيق قلبك بمكرهم {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي: وعد العذاب {إِن كُنتُمْ صادقين} أن العذاب نازل بالمكذب. ويقال: ولا تكن في ضيق مما يمكرون. بقولهم: فهذا دأبنا ودأبك أيام الموسم، وهم الخراصون، فكانوا يأمرون أهل الموسم، بأن لا يسمعوا كلامه، ثم قال عز وجل: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} يعني: قرب وحضر لكم. قال القتبي: أي تبعكم واللام زائدة، فكأنه قال: ردفكم قال وقيل في التفسير دنا منكم {بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب، وهو عذاب القبر. ويقال: يعني: القحط. ويقال: يوم بدر {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} حين لم يأخذهم بالعذاب عند معصيتهم {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} بتأخير العذاب عنهم حتى يتوبوا {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} يعني: ما تسر قلوبهم من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم من الكفر والشرك. قوله عز وجل {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} يعني: من أمر العذاب. ويقال: ما من شيء غائب عن العباد {فِي السموات *** والارض إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} يعني: مكتوب في اللوح المحفوظ. ويقال: أي جملة غائبة عن الخلق إلا في كتاب مبين {إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل} قال مقاتل: يعني: أن هذا القرآن يبين للناس أهل الكتاب {أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يعني: اختلافهم وقال ابن عباس: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فصاروا أهواءً وأحزاباً يطعن بعضهم على بعض، ويبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن بتبيان ما اختلفوا فيه. ثم قال عز وجل: {وَأَنَّهُ} يعني: القرآن {لَهَدَى} يعني: لبياناً من الضلالة {وَرَحْمَةً} من العذاب {لِلْمُؤْمِنِينَ *** إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم} يعني: بين المختلفين في الدين {بِحُكْمِهِ} أي: بقضائه يوم القيامة {وَهُوَ العزيز} يعني: المنيع بالنقمة. ويقال: العزيز يعني: القوي فلا يرد له أمر {العليم} بأحوال خلقه سبحانه {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} يعني: ثق بالله. ويقال: فوّض أمرك إلى الله {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} يعني: الدين المبين، وهو الإسلام. ثم قال عز وجل: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} فهذا مثل ضربه للكفار، أي فكما أنك لا تسمع الموتى، فكذلك لا تتفقه كفار مكة {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} قرأ ابن كثير {وَلاَ يَسْمَعُ} بالياء والنصب، و{الصم} بالرفع، والباقون بالتاء وضم التاء وكسر الميم، والصَّم بالنصب، فمن قرأ بالياء فلا يسمع، فالفعل للصم، ومن قرأ بالتاء، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لا تسمع الصم الدعاء {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} يعني: أعرضوا عن الحق مكذبين قوله عز وجل: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} قرأ حمزة {تَهْدِى العمى} بغير ألف وقرأ الباقون بالألف، فمن قرأ تهدي، فمعناه ما أنت يا محمد بالذي تهدي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا، ولكن عليك الدعاء، ويهدي الله من يشاء، ومن قرأ {بِهَادِى} فإن الباء دخلت لتأكيد النفي، كقولك ما أنت بعالم، فالياء لتأكيد النفي، وخفض العمي للإضافة ثم قال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} يعني: لا تسمع الهدى إلا من صدق بالقرآن أنه من الله تعالى. ويقال: بآياتنا يعني: أدلتنا {فَهُم مُّسْلِمُونَ} يعني: مخلصون مقرون بها. ويقال: مسلمون في علم الله تعالى.
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} يعني: إذا وجب عليهم العذاب والسخط وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانه، ولم يبق إلا من يموت كافراً في علم الله تعالى {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الارض تُكَلّمُهُمْ} بما يسوءهم يعني: الدابة التي تكلم الناس، وخروجها من أول أشراط الساعة. {إِنَّ الناس} قرأ عاصم وحمزة والكسائي {ءانٍ} بالنصب. وقرأ الباقون بالكسر، فمن قرأ بالنصب يكون حكاية قول الدابة. ومعناه: تكلمهم بأن الناس {كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ} أي: لا يؤمنون بآيات ربهم وهو خروج الدابة، ومن قرأ بالكسر يكون بمعنى الابتداء، ويتم الكلام عند قوله تكلمهم. ثم يقول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ} يعني: لا يؤمنون. قال أبو عبيد حدّثنا هشام عن المغيرة أن أبا زرعة بن عمر وابن عباس، قرأها {تُكَلّمُهُمْ} بنصب التاء، وكسر اللام، وبسكون الكاف، والتخفيف يعني: تسمهم، فيتبين الكافر من المؤمن قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وحدثني الثقة عن أبي بكر الواسطي، عن إبراهيم بن يوسف، عن محمد بن الفضل الضبي، عن أبيه عن سعيد بن مسروق، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال ألا أريكم المكان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم تخرج الدابة منه فضرب بعصاه قبل الشق الذي في الصفا وقال: إنها ذات زغب وريش، وإنها لتخرج تلبها أول ما تخرج، كحضر الفرس الجواد ثلاثة أيام ولياليهن، وإنها لتدخل عليهم؛ وإنهم ليفرون منها إلى المساجد، فتقول: أترون أن المساجد تنجيكم مني. وروى مقاتل قال: تخرج الدابة من الصفا، ولا يخرج إلا رأسها وعنقها، فتبلغ رأسها السحاب، فيراه أهل المشرق والمغرب، ثم تقاد إلى مكانها، ثم تزلزل الأرض في ذلك اليوم في ست ساعات، فيمسون خائفين، فإذا أصبحوا جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج. وروي عن أبي هريرة أنه قال: تخرج الدابة ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بعصا موسى، وتختم وجه الكافر بخاتم سليمان ثم تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنة، ويا فلان أنت من أهل النار، فترى أهل البيت مجتمعين على خوانهم يقول لهذا يا مؤمن، ولهذا يا كافر. وروى ابن جريج عن أبي الزبير قال: رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذناها أذنا فيل، وقرناها أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين منها اثني عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام تخرج ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتنكت على وجه المؤمن حتى يبيض، وتختم على وجه الكافر بخاتم سليمان حتى يسود، فيعرف المؤمن من الكافر. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء، فتفشو في وجهه حتى يبيض وجهه، ويتابعون في الأسواق، فيعرفون المؤمن من الكافر.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً} يعني: نوجب عليهم العذاب في يوم نحصر من كل أمة فوجاً. يعني: من أهل كل دين جماعة. ويقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ} يعني: نجمع من كل أمة فوجاً يعني: جماعة {مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا فَهُمْ يُوزَعُونَ} يعني: يحبس أولهم لآخرهم يجتمعوا {حتى إِذَا} يعني: اجتمعوا للحشر {جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بئاياتى} يعني: قال الله تعالى لهم أكذبتم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؟ اللفظ لفظ الاستفهام. والمراد به التقرير. يعني: قد كذبتم بآياتنا {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} اللفظ لفظ النفي، والمراد به المناقشة في الحساب. يعني: كذبتم كأنكم لم تعلموا. ويقال: لم تعرفوها حق معرفتها ثم قال: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} اللفظ لفظ السؤال، والمراد به التوبيخ، ومعناه: ماذا كنتم تعملون أن تؤمنوا بالكتاب والرسل؟ يعني: أي عمل منعكم من ذلك {وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} يعني: نزل عليهم العذاب، ووجب عليهم {بِمَا ظَلَمُواْ} يعني: بما أشركوا {فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} يعني: لا يمكنهم أن يتكلموا من الهيبة لما ظهر لهم من المعاينة، ولما تحيروا في ذلك. ثم وعظ كفار مكة فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ} يعني: ألم يعتبروا {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} يعني: مضيئاً، وأضاف الفعل إلى النهار، لأن الكلام يخرج مخرج الفاعل، إذا كان هو سبباً للفعل. كما قال: {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الاغلال فى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: فيما ذكر من الليل والنهار، لعبرات لقوم يصدقون بتوحيد الله تعالى.
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} وقال عز وجل {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} أي: واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور {فَفَزِعَ مَن فِى *** السموات **وَمَن فِى الارض} أي: من شدة الصوت والفزع. ويقال: ماتوا. وقال بعضهم: النفخ ثلاثة: أحدها الفزع وهو قوله: {فَفَزِعَ مَن فِى *** السموات} ونفخة أخرى للموت. وهو قوله: {وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] ونفخة للبعث وهي قوله {وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] وقال بعضهم: إنما هما نفختان والفزع والصعق كناية عن الهلاك، ثم نفخة للبعث {إِلاَّ مَن شَاء الله} يعني: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ثم يموتوا بعد ذلك {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين}. روى سفيان بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} بغير مد ونصب التاء، وهي قراءة حمزة وعاصم في رواية حفص. والباقون بالمد والضم. ومن قرأ بالمد وضم التاء، فمعناه كل حاضروه {داخرين} أي: صاغرين. ويقال: متواضعين. ومن قرأ بغير مد يعني: يأتوا الله {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي: تحسبها واقفة مكانها ويقال: مستقرة {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حتى تقع على الأرض فتستوي، أي في أعين الناظرين كأنها واقفة. قال القتبي: وكذلك كل عسكر غض به الفضاء، فينظر الناظر، فيرى أنها واقفة وهي تسير {صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَئ} يعني: أحكم خلق كل شيء. ويقال: الشيء المتقن أن يكون وثيقاً ثابتاً، فما كان من صنع غيره يكون واهياً، ولا يكون متقناً {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي: عليم بما فعلتم {مَن جَاء بالحسنة} أي: بالإيمان والتوحيد، وكلمة الإخلاص، وشهادة أن لا إله إلا الله {فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} على وجه التقديم، وله منها خير أي: حين ينال بها الثواب والجنة. ويقال: فله خير منها. أي: خير من الحسنة. يعني: أكثر منها للواحد عشرة. ويقال: فله خير منها من الحسنة، وهي الجنة، لأن الجنة هي عطاؤه وفضله، والعمل هو اكتساب العبد، فما كان من فضله وعطائه، فهو أفضل، وهذا تفسير المعتزلة، والأول قول المفسرين. {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} أي: من فزع يوم القيامة. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع في رواية ورش {مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بغير تنوين، {وَيَوْمَئِذٍ} بكسر الميم، والباقون بالتنوين، ونصب الميم. قال أبو عبيد: وبالإضافة نقرأ، لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع، فزع ذلك اليوم، وإذا قال: فزع بالتنوين، صار كأنه قال: فزع دون فزع. وقال غيره: إنما أراد به الأكبر، لأن بعض الأفزاع تصيب الجميع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا *** يَفْعَلُونَ} بالياء على معنى الإخبار عنهم، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة {وَمَن جَاء بالسيئة} أي بالشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار} ويقال: يكبون على وجوههم، ويجرون إلى النار، وتقول لهم خزنة النار: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك ويقال: فكبت أي: ألقيت وطرحت {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة} أي: قل يا محمد لأهل مكة: أمرني الله تعالى أن أستقيم على عبادة رب هذه البلدة. يعني: مكة الذي حرمها بدعاء إبراهيم عليه السلام وحرم فيها القتل والصيد. قال بعضهم: كان حراماً أبداً. قال بعضهم: وهو أصح إن إبراهيم لما دعا، فجعلها الله حراماً بدعوته. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا حَرَّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْهَا». ثم روي أنه قد رخص في المدينة ثم قال تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَئ} أي وخلق كل شيء، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين}، أي: من المخلصين {وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان} يعني: أمرت أن أقرأ عليكم القرآن يا أهل مكة {فَمَنُ اهتدى} أي: آمن بالقرآن {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} أي: يؤمن لنفسه ويثاب عليها {وَمَن ضَلَّ} ولم يوحد، ولم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} أي: من المخوفين ومن المرسلين، فليس عليَّ إلا تبليغ الرسالة {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} يعني: الشكر لله على ما هداني {سَيُرِيكُمْ} أيها المشركون آياته. يعني: العذاب في الدنيا {فَتَعْرِفُونَهَا} أنها حق، وذلك أنه أخبرهم بالعذاب، فكذبوه فأخبرهم أنهم يعرفونها أنها حق، وذلك إذا نزل بهم، وهو القحط والقتل. ويقال: هو فتح مكة {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فهذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. وقال الزجاج في قوله: {سَيُرِيكُمْ ءاياته} أي: سيريكم الله آياته في جميع ما خلق، وفي أنفسكم. قرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في إحدى الروايتين {تَعْمَلُونَ} بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنه، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} قوله تعالى: {طسم تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين} أي: القرآن وهو مبين للأحكام، وقد ذكرناه قال أبو سعيد الفاريابي في قوله تعالى طا قال: هو طاهر عما يعلوه، والسين سامع لما وصفوه، والميم ماجد حين سألوه، والماجد كثير العطاء. ويقال: أمجدني فلان إذا أكثر إعطاؤه. ويقال: طا أي أقسم الله بطالوت، وسين أقسم الله بسليمان، وميم أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم. {نَتْلُواْ عَلَيْكَ} يعني: ننزل عليك جبريل عليه السلام، يقرأ عليك {مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق} أي: من خبر موسى وفرعون بالصدق {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني: يصدقون محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، وإنما أنزل القرآن لجميع الناس ولكن المؤمنين هم الذين يصدقون، فكأنه لهم، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذونهم المشركون، فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه السورة في شأنهم، لكي يعرفوا ما نزل في بني إسرائيل من فرعون وقومه، ليصبروا كصبرهم، وينجيهم ربهم كما أنجا بني إسرائيل من فرعون وقومه، وهذا كقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214] الآية. ثم أخبر عن فرعون فقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض} يعني: اسْتَكْبَرَ وتعظم عن الإيمان، وخالف أمر موسى في أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} يعني: أهل مصر فرقاً {يَسْتَضْعِفُ} يعني: يستقهر {طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} يعني: من أهل مصر، وهم بنو إسرائيل، فجعل بعضهم ينقل الحجارة من الجبل، وبعضهم يعملون له عمل النجارة، وبعضهم أعمال الطين، ومن كان لا يصلح لشيء من أعماله يأخذ منه كل يوم ضريبة درهماً، فإذا غابت الشمس، ولم يأت بالضريبة غلت يده اليمنى إلى عنقه، ويأمره بأن يعمل بشماله، هكذا شهراً. ثم قال: {يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ} أي يعني: أبناء بني إسرائيل صغاراً. {إِنَّ فِرْعَوْنَ} يعني: يستخدم نساءهم، وأصله من الاستحياء. يعني: يتركهن أحياء. وروى أسباط عن السدي قال: بلغنا أن فرعون رأى فيما يرى النائم، كأن ناراً أقبلت من أرض الشام، فاشتملت على بيوت مصر، وكانت الشام أرض بني إسرائيل أول ما كانوا، فأحرقتها كلها إلا بيوت بني إسرائيل، فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: يولد في بني إسرائيل مولود، يكون على يديه هلاك أهل مصر، فأمر فرعون بأن لا يولد في بني إسرائيل ذكر إلا ذبح، وعمد إلى ما كان من بني إسرائيل خارج مصر، فأدخلهم المدينة، واستعبدهم، ورفع العمل عن رقاب أهل مصر، ووضعه على بني إسرائيل ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} يعني: فرعون كان يعمل بالمعاصي.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)} قوله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض} يعني: أردنا أن نمن بالنجاة على الذين استضعفوا في الأرض، وهم بنو إسرائيل {نَّمُنَّ} يعني: ننعم عليهم {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} يعني: قادة في الخير {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} يعني: أرض مصر، وملك فرعون، وقومه بعد هلاك فرعون. {وَنُمَكّنَ لَهُمْ} يعني: نملكهم ويقال: ننزلهم في الأرض {فِى الارض} يعني: في أرض مصر {وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان} قرأ حمزة والكسائي {وَيَرَى} بالياء والنصب، و{فِرْعَوْنَ وهامان} {وَجُنُودَهُمَا} بالرفع، كل ذلك قرأ. والباقون {وَنُرِىَ} بالنون والضم و{فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا} كلها بالنصب ونصب نرى، لأنه معطوف على قوله: {أَن نَّمُنَّ}، فكأنه قال أن نمن وأن نري، ونصب فرعون لوقوع الفعل عليه. ومن قرأ بالياء رفعه، لأن الفعل منه ثم قال: وهامان وجنودها {مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} يعني: يرون ما كانوا يخافون من ذهاب الملك. وقوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} يعني: أَلْهمنا أم موسى {أَنْ أَرْضِعِيهِ} وذلك: أن أم موسى حبلت، فلم يظهر بها أثر الحبل حتى ولدت موسى وأرضعته ثلاثة أشهر أو أكثر، فألهمها الله تعالى بقوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يعني: إلى صباحه {فَأَلْقِيهِ فِى اليم} يعني: في البحر قال مقاتل وهو النيل فعلمها جبريل. ويقال: رأت في المنام بأنها تؤمر أن تلقيه في البحر. ويقال: كان هذا إلهاماً. ويقال: كانت دلالة حيث علمت بالرؤيا أو شيء خيل لها أن تفعل ما فعلت، كما أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ذبح إسحاق وإسماعيل عليهما السلام وذكر أنها كانت تخبز يوماً، وكان موسى عليه السلام على رأس التنور، إذ دخل قوم فرعون يطلبون الولد، فوضعته في التنور، فدخلوا فلم يجدوا موسى عليه السلام فجاءت إلى التنور، فوجدته يلعب بأصابعه في الأرض، فاستيقنت أن الله تعالى يحفظه، فجعلته في التابوت، وألقته في النيل، ثم قال: {وَلاَ تَخَافِى} الغرق {وَلاَ تَحْزَنِى} أن لا يرد إليك {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين} يعني: رسولاً إلى فرعون وقومه، فلما ألقته في النيل جاء به الماء، وكان ممر الماء في دار فرعون، فوجدته جواري فرعون بين الماء والشجر، فمن ثم سمي موسى بلفظ القبط موسى، فذلك قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} يعني: إن أخذهم إياه كان سبباً لحزنهم، فكأنهم أخذوه لذلك، وإنما كان أخذهم لم يكن لذلك. قرأ حمزة والكسائي {وَحَزَناً} بضم الحاء، وسكون الزاي. وقرأ الباقون بنصب الحاء والزاي، وهما لغتان: ومعناهما واحد. {إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين} يعني: مشركين ويقال: عاصين آثمين.
{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)} قوله عز وجل: {وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ} واسمها آسية لفرعون هذا الغلام {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} فإنه آتانا به الماء من مصر آخر، ومن أرض أخرى، وليس من بني إسرائيل ويقال: إنها قالت إن هذا كبير، ومولود قبل هذه المدة التي أخبر لك {عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} فإنه لم يكن له ولد ذكر. قال فرعون: فهو قرة عين لك، فأما أنا فلا. وروي عن ابن عباس أنه قال: لو قال فرعون أيضاً: هو قرة عين لي لنفعه الله تعالى به، ولكنه أبى. ويقال: {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى}، وقد تمّ الكلام. ثم قالت: {وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ}. قال: وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقف على {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ} ثم قال لا تقتلوه، أي {لاَ تَقْتُلُوهُ}، فلا الثاني إضمار في الكلام، والتفسير الأول أصح ثم قال: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم على يديه. ثم قال عز وجل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} يعني: خالياً من كل ذكر وشغل إلا ذكر موسى عليه السلام. ويقال: صار قلبها فارغاً حين بعثت أخته لتنظر، فأخبرتها بأنه قد أخذ في دار فرعون، فسكنت حيث لم يغرق. ويقال: صار قلبها فارغاً، لأنها علمت أنه لا يقتل. وروي عن فضالة بن عبيد أنه قرأ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى} يعني: خائفاً. وقراءة العامة {موسى فَارِغاً}، وتفسيره ما ذكرناه وقد قيل أيضاً: فارغاً من شغل نفقته {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ} يعني: وقد كادت لتظهر به. قال مقاتل: وذلك أنها لما ألقت التابوت في النيل، فرأت التابوت يدفعه مرة، ويضعه أخرى، فخشيت عليه الغرق، فعند ذلك فزعت عليه، وكادت أن تصيح ويقال: إنه لما كبر كان الناس يقولون: هو ابن فرعون، فكأن ذلك شق عليها، وكادت أن تظهر أن هذا ولدي، وليس بولد فرعون. ويقال: لما دخل الليل، دخل الغم في قلبها، حيث لم تدر أين صار ولدها، فأرادت أن تظهر ذلك {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} أي: ثبتنا قلبها. ويقال: قوينا قلبها، وألهمناها الصبر {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} يعني: من المصدقين بوعد الله تعالى حيث وعد لها بإنا رادوه إليك، فلم تجزع، ولم تظهر. قوله عز وجل: {وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ} يعني: قالت أم موسى، لأخت موسى وكان اسم أخته مريم {قُصّيهِ} يعني: اتبعي أثره. ويقال: يعني: امشي بجنبه في الحد، وهو في الماء حتى تعرف من يأخذه {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} يعني: بصرته عن بعد كما قال {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إحسانا وَبِذِى القربى واليتامى والمساكين والجار ذِى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36] يعني: البعيد منهم من قوم آخرين. ويقال: عن جنب يعني: في جنب {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنها أخت موسى. ويقال: وهم لا يشعرون يعني: وهم لا يعرفون أنها ترقبه.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} قوله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ} أي: من قبل مجيء أمه. ويقال في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن أم موسى عليها السلام. قالت لأخته قصيه: أي اطلبي أثره بعد ما أخذه آل فرعون، ولم يقبل رضع أحد، وحرمنا عليه المراضع من قبل مجيء أخته. ويقال: حرمنا عليه المراضع. يعني: منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضع من قبل أن نرده على أمه {فَقَالَتْ} أخته حين تعذر عليهم إرضاعه {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} يعني: يضمنون لكم رضاعه. ويقال: يضمنونه {وَهُمْ لَهُ ناصحون} يعني: مشفقون للولد. ويقال مخلصون شفقة. فقال هامان: خذوها حتى تخبرنا بقصة هذا الغلام، فأخذت فألهمها الله تعالى أن قالت عند ذلك: إنما ذكرت النصيحة لفرعون أعني: وهم له ناصحون لفرعون لا لغيره. فقال هامان: دعوها، فقد صدقت، فأرسل إليها، فلما جاءت أمه وضعت الثدي في فمه، فأخذ ثديها، وسكن فذلك قوله تعالى: {فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} يعني: كائن صدق وهو قوله {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} بأن وعد الله حق. يعني: أهل مصر. قوله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}. ثم قال: قال مجاهد يعني: بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة. {واستوى} يعني: بلغ أربعين سنة. قال: وفي رواية الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة. ويقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} يعني: منتهى قوته، وهو ما فوق الثلاثين، {واستوى} يعني: بلغ أربعين سنة {اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} يعني: علماً وعقلاً. ويقال: النبوة وعلم التوراة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الأشد ثلاثاً وثلاثين سنة، وأما الاستواء فأربعون سنة، والعمر الذي أعذر الله تعالى ابن آدم فيه إلى ستين سنة. يعني قوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} [فاطر: 37] ثم قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} يعني: المؤمنين. قوله عز وجل: {وَدَخَلَ المدينة} قال مقاتل: يعني: قرية على رأس فرسخين. وقال غيره: يعني: المصر {على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} يعني: نصف النهار وقت القيلولة. ويقال: ما بين المغرب والعشاء {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} يعني: من بني إسرائيل {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} يعني: من القبط. وقال القتبي: {هذا مِن شِيعَتِهِ} أي: من أصحابه، {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي: من أعدائه، والعدو يدل على الواحد، والجمع، وذكر أن خباز فرعون أخذ رجلاً من بني إسرائيل سخرة، فأمره بأن يحمل الحطب إلى دار فرعون {فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ} يعني: هذا الذي من شيعة موسى استغاث بموسى {عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى} يعني: ضربه بكفه ضربة في صدره. وقال القتبي: {فَوَكَزَهُ} يعني: لكزه ويقال: لكزته ووكزته إذا دفعته {فقضى عَلَيْهِ} يعني: مات الخباز بضربته، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته، وقضيت عليه. فمعنى قوله: {فقضى عَلَيْهِ}، أي: قتله، ولم يتعمد قتله، وكان موسى شديد البطش، ثم ندم على قتله فقال: إني لم أؤمر بالقتل، وإن كان كافراً {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} يعني: هو الذي حملني على هذا الفعل {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} يعني: يضل الخلق {مُّبِينٌ} يعني: ظاهر العداوة، ثم استغفر إلى الله تعالى {فَقَالَ} موسى {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى فَغَفَرَ لَهُ} يعني: غفر الله ذنبه عز وجل {إِنَّهُ هُوَ الغفور} للذنوب لمن تاب {الرحيم} بخلقه {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} قَالَ موسى {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} يعني: بالمغفرة كقوله {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] يعني: أما إذا أغويتني ثم قال: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ} يعني: أعوذ بالله أن أكون معيناً للكافرين، لأن الإسرائيلي كان كافراً، ولم يستثن على كلامه، فابتلاه الله عز وجل في اليوم الثاني، بمثل ذلك، وكانوا لا يعرفون من قتل خباز الملك، وكانوا يطلبون قاتله {فَأَصْبَحَ} موسى {فِى المدينة خَائِفاً} أن يؤخذ فيقتل {يَتَرَقَّبُ} يعني: ينطتظر الطلب. ويقال: ينتظر الأخبار {فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ} يعني: رأى الإسرائيلي كان يقاتل مع رجل آخر من القبط يستصرخه يعني: يستغيثه كقوله: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تَلُومُونِى ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] يعني: بمغيثكم {قَالَ لَهُ موسى} يعني: للإسرائيلي {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} يعني: ضال بيّن ويقال جاهل بين ويقال: ظاهر الغواية، وقد قتلت لك الأمس رجلاً، وتدعوني إلى آخر، ثم أقبل إليه، فظن الذي من شيعته أنه يريده، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} يعني: يريد أن يضرب القبطي، فظن الإسرائيلي أنه يريده بعد ما عاتبه. قرأ أبو جعفر المدني {يَبْطِشَ} بضم الطاء، وقراءة العامة بالكسر، ومعناهما واحد، فظن الإسرائيلي أن موسى يريد ضربه ف {قَالَ يَاءادَمُ *** موسى *** أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس} وقال بعضهم: كان ذلك إبليس تشبه بالرجل الإسرائيلي، ليظهر أمر موسى. وقال بعضهم: كان ذلك الرجل بعينه. فقال ذلك الرجل من الخوف {إِن تُرِيدُ} يعني: ما تريد {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض} يعني: قتالاً. قال الكلبي: من قتل رجلين، فهو جبار. ويقال: إن من سيرة الجبابرة القتل بغير حق {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} يعني: المطيعين لله تعالى. فلما قال الإسرائيلي، هذا، علم القبطي أن موسى هو قاتل القبطي، فرجع القبطي، فأخبرهم أن موسى هو القاتل، فائتمروا بينهم بقتل موسى. قال: فأذن فرعون بقتله فجأه خزيلي، وهو مؤمن من آل فرعون، وأخبر موسى بذلك، فذلك قوله: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} يعني: من وسط المدينة يمشي على رجليه، ويقال: يسرع ويشتد في مشيته ف {قَالَ يَاءادَمُ *** موسى أَنِ *** الملا} يعني: الأشراف من أهل مصر {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} قال أبو عبيد: يعني: يتشاورون في أمرك. وقال القتبي: يعني: يهمون بك ليقتلوك {فاخرج} من هذه المدينة {إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين} قوله عز وجل: {فَخَرَجَ مِنْهَا} أي من مصر {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} يعني: ينتظر الطلب {قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} يعني: المشركين {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي: بوجهه نحو مدين، وذلك أن موسى عليه السلام حين خرج وتوجه نحو مدين، وكان بينه وبين مدين ثمانية أيام، كما بين الكوفة والبصرة. ويقال: تلقاء مدين، يعني: سلك الطريق الذي تلقاء مدين ويقال: لما قال {رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} استجاب الله تعالى دعاءه، فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بأن يسير تلقاء مدين، فسار إلى مدين في عشرة أيام وهو قوله: {قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} يعني: يرشدني قصد الطريق إلى مدين.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)} قوله عز وجل: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} ومدين بن إبراهيم عليهما السلام وكانت البير تنسب إليه الماء، وصار مدين اسم قبيلة {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} أي: جماعة {مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أنعامهم وأغنامهم. ويقال: هم أربعون رجلاً ويقال: عشرة رجال {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} يعني: من دون الناس {امرأتين تَذُودَانِ} أي: تطردان وقال سعيد بن جبير: يعني: حابستان ويقال تحسبان غنمهما. وقال القتبي: تذودان، أي تكفان غنمهما، وحذف الغنم اختصاراً. ويقال كانتا تحبسان الغنم لكيلا تختلط بغيرها. ويقال: تحسبان الغنم لتصدر مواشي الناس، وتسقيان بفضل الماء، ومما فضل من أغنام الناس، وهما ابنتا شعيب النبي عليه السلام {قَالَ} لهما موسى {مَا خَطْبُكُمَا} أي: ما شأنكما ترعيان الغنم مع الرجال، وما بالكما لا تسقيان {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء} قرأ أبو عمرو وابن عامر {يُصْدِرَ} بنصب الياء، وضم الدال. وقرأ الباقون {يُصْدِرَ} بضم الياء، وكسر الدال، فمن قرأ بالنصب، فهو من مصدر صدر إذا رجع من الماء، ومعناه لا نسقي حتى يرجع الرعاء، ونسقي بفضلهم، لأنا لا نقدر أن نسقي، وأن نزاحم الرجال، إذا صدروا سقينا بفضل مواشيهم، ومن قرأ {يُصْدِرَ} بالضم، فهو من أصدر يصدر، والمعنى حتى يصدر الرعاة أغنامهم {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لم يقدر على الخروج، وليس له عوناً يعينه غيرنا فرجع الرعاة ووضعوا صخرة على البئر، فانتهى موسى إلى البئر، وقد أطبقت عليها الصخرة، فاقتلعها ثم سقى لهما حتى روتا أغنامهما. وقال في رواية الكلبي: كان للبئر دلو يجتمع عليه أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر، فجاء موسى أهل الماشية، فسألهم أن يهيئوا له دلواً من الماء. فقالوا: إن شئت أعطيناك الدلو على أن تسقي أنت. قال: نعم، فأخذ موسى عليه السلام الدلو، فسقى بها وحده، فصب في الحوض، ثم قربتا غنمهما فشربت، فذلك قوله عز وجل: {فسقى لَهُمَا} يعني: أغنامهما {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} يعني: تحول إلى ظل الشجرة {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي: لما أنزلت إلي من الطعام، فأنا محتاج إلى ذلك أنه كان جائعاً، فسأل ربه، ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان، فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة. فقال أبوهما: هذا رجل جائع. وقال لإحداهما: اذهبي فادعيه، فلما أتته عظمته، وغطت وجهها فذلك قوله: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} قوله: {عَلَى استحياء}. يعني: على حياء، لأنها كانت مقنعة، ولم تك متبرجة. ويقال: على استحياء. يعني: على حياء، لأنها كانت واضعة يدها على وجهها. ويقال {عَلَى استحياء}، أي مستترة بكم درعها. قال: فالوقف على تمشي إذا كان قولها على الحياء، فأما إذا كان مشيها على الحياء، فالوقف على استحياء. والقول بالحياء أشبه من المشي بالحياء، فكيف ما يقف يجوز بالمعنى. فقالت: {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال. ويقال: أقل من ذلك، فتبعها فلم يجد بداً من أن يتبعها، لأنه كان بين الجبال خائفاً مستوحشاً، فلما تبعها هبت الريح، فجعلت تصفق ثيابها، وتظهر عجيزتها. وجعل موسى عليه السلام يعرض مرة، ويغض أخرى، فلما عيل صبره ناداها: يا أمة الله كوني خلفي، وأريني السمت بقولك. يعني: دليني الطريق، فلما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيأ، فقال له شعيب: اجلس يا شاب، فتعش. فقال موسى: أعوذ بالله. فقال له شعيب: لم لا تأكل أما أنت جائع؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت، لا نبيع شيئاً من ديننا بملء الأرض ذهباً. فقال: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي إنا نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل، وأخبره بقصة القتل والهرب، فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} يعني: خرجت من ولاية فرعون، ولا سلطان له في أرضنا. وقال في رواية الكلبي: كان هذا الرجل اسمه نيرون ابن أخي شعيب، وشعيب كان توفي قبل ذلك. وقال عامة المفسرين: إن هذا كان شعيباً.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)} قوله عز وجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت ياأبت استجره} أي: قالت إحدى الابنتين التي جاءت به. وقال في رواية مقاتل: هي الكبرى. وقال في رواية الكلبي: هي الصغرى {***يا أبت} استأْجر موسى ليرعى لك الغنم {ياأبت استجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين} يعني: خير الأجراء من يكون قوياً في العمل، أميناً على المال والعورة. ثم قال: إيش تعلمين أنه قوي أمين بماذا؟ فأخبرته بالقصة. قال أبو الليث: حدّثنا محمد بن الفضل، قال حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا إبرهيم بن يوسف، قال حدّثنا أبو معاوية عن الحجاج. عن الحكم قال: كان سريع لا يفسر شيئاً من القرآن إلا ثلاث آيات {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] قال الزوج {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وءاتيناه الحكمة} [ص: 20] قال: الحكمة الفقه والعلم، وفصل الخطاب البينة والإيمان، وقوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين} قال: كانت قوته أن يحمل صخرة لا يقوى على حملها إلا عشرة رجال، وكانت أمانته أن ابنة شعيب مشت أمامه، فوصفتها الريح فقال لها: تأخري وصفي لي الطريق {قَالَ} شعيب لموسى عليهما السلام: {إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ} يعني: أزوجك إحدى ابنتي على أن ترعى غنمي ثمان سنين، وهذا الحكم في هذه الأمة جائز أيضاً، لو تزوج الرجل المرأة على أن يرعى غنمها كذا وكذا سنة، أو يرعى غنم أبيها، يجوز النكاح، ويكون ذلك مهراً لها {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} يعني: عشر سنين {فَمِنْ عِندِكَ} يعني: فإن أتممت عشر سنين فبفضلك، وليس ذلك بواجب عليك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} في السنتين يعني: أنت بالخيار في ذلك. ويقال: بأن أشرط عليك العشر {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} أي من الوافين بالعهد. وقال مقاتل: يعني: من المرافقين بك كقوله: {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ موسى لاًّخِيهِ هارون اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] يعني: ارفق بهم {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاجلين قَضَيْتُ} يعني: ذلك الشرط بيني وبينك أيما الأجلين أتممت لك، إما الثماني وإما العشر {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ} أي: لا سبيل لك علي. ويقال: لا ظلم علي بأن أطالب أكثر منه، فإن قيل: كيف تجوز الإجارة بهذا الشرط على أحد الأجلين بغير وقت معلوم؟ قيل له: العقد قد وقع على الثماني، وهو قوله: {أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ} خير في الزيادة والإجازة بهذا الشرط في الشريعة جائزة أيضاً، ثم قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يعني: شهيد فيما بيننا. ويقال: شاهد على ما نقول، وعلى عقدنا. وذكر مقاتل أن رجلاً من الأزد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما الأجلين قضى موسى؟ قال: «الله أَعْلَمُ» حتى سأل جبريل، فأتاه جبريل، فسأله. فقال: الله أعلم، حتى سأل إسرافيل عليه السلام فقال: الله أعلم، حتى اسأل رب العزة، فأوحى الله تعالى إلى إسرافيل عليه السلام أن قد قضى موسى أبرهما وأوفاهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: قضى موسى أتمَّ الأجلين، وقد كان شرطه له أن ما ولدت في ذلك العام ولداً أبلق، فهو له، فولدت في ذلك العام كلها بلقاً، فأخذ البلق مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب، إلا أن الوعد من الأنبياء عليهم السلام واجب، فوفاه بوعده، فلما أراد أن يخرج قال لشعيب عليه السلام: يا شيخ أعطني عصا أسوق بها غنمي. فقال لابنته: التمسي له عصا، فجاءت بعصا شعيب. فقال شعيب عليه السلام: ردي هذه، وكانت تلك العصا أودعها إياه ملك في صورة إنسان، وكانت من عود آس الجنة، فردتها والتمست غيرها، فلم يقع في يدها غيرها، فأعطته، فخرج مع أهله فضل الطريق، وكانت ليلة باردة مظلمة، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى *** الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} يعني: بِامرأتِهِ {إِنسٌ} يعني: أبصر {مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لاِهْلِهِ امكثوا} يعني: قفوا مكانكم {فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ} أي: خبر الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النار} قرأ عاصم {جَذْوَةٍ} بنصب الجيم، وقرأ حمزة بضم الجيم، وقرأ الباقون بالكسر، فهذه لغات معناها واحد، وهو قطعة من النار. ويقال: شعلة، وهو عود قد احترق {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: لكي تصطلوا من البرد، فترك امرأته في البرية وذهب.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)} {فَلَمَّا أتاها} يعني: النار {نُودِىَ مِن شَاطِئ الوادى * الايمان} يعني: من جانب الواد الأيمن عن يمين موسى عليه السلام {فِى البقعة المباركة} يعني: من الموضع المبارك الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام {مِنَ الشجرة أَن ياموسى *** موسى إِنّى **أَنَا الله رَبُّ العالمين} يعني: الذي يناديك رب العالمين. قوله عز وجل: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ} وقد ذكرناه. قال الله تعالى: {يُعَقّبْ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين} يعني: من الحية يعني: قد آمنت أن ينالك منها مكروه {اسلك يَدَكَ} أي: أدخل يدك {فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} أي: يدك. قال بعضهم: هذا ينصرف إلى قوله ولم يعقب من الرهب، أي: لم يلتفت من الخوف. ويقال: كان خائفاً، فأمره بأن يضم يده إلى صدره، ففعل حتى سكن عن قلبه الرعب. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {مِنَ الرهب} بنصب الراء والهاء، وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الراء، وجزم الهاء، والباقون {الرهب} بضم الراء، وجزم الهاء. ومعنى ذلك كله واحد، وهو الخوف. وقال بعضهم: هو الكريم. ثم قال: {فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبّكَ} يعني: اليد والعصا آيتان وعلامتان من ربك وحجتان لنبوتك. قرأ ابن كثير وأبو عمرو. {فَذَانِكَ} بتشديد النون. وقرأ الباقون بالتخفيف، وهما لغتان، وهو الإشارة إلى شيئين. يقال للواحد: ذلك وذاك، والاثنين ذانك وذاناك. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ومعناه: أرسلناك إلى فرعون بهاتين الآيتين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} يعني: عاصين {قَالَ} موسى {رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} به {وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} يعني: أبين مني لساناً وكانت في لسان موسى عقدة من النار التي أدخلها فاه {فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً} أي عوناً {يُصَدّقُنِى} يعني: لكي يصدقني، ويعبر عن كلامي. قرأ نافع {***رداً} بغير همز، والباقون بالهمز، فمن قرأ بالهمز، فهو الأصل، ومن قرأ بغير همز، فإنما ألقى فتحة الهمزة على الدال، وليّن الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة {رِدْءاً يُصَدّقُنِى} بضم القاف، والباقون بالجزم، فمن قرأ بالجزم جعله جواب الأمر، ومن قرأ بالضم جعله صفة ردءاً أي ردءاً مصدقاً ثم قال: {إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} أي فرعون وقومه {قَالَ} الله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: نقويك بأخيك {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} يعني: حجة ثانية، وهي اليد والعصا {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا} يعني: لا يقدرون على قتلكما {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} يعني: من آمن بكما الغالبون في الحجة.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} قوله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءهُم موسى بئاياتنا بينات} يعني: جاء إلى فرعون وقومه بعلاماتنا، وذكر في رواية مقاتل أن فرعون لم يأذن لهما إلى سنة. وقال في رواية السدي وغيره: أنه لما جاء إلى الباب، لم يأذن له البواب، فضرب عصاه على باب فرعون ضربة، ففزع من ذلك فرعون وجلساؤه، فدعا البواب وسأله، فأخبره أن بالباب رجلاً يقول: أنا رسول رب العالمين، فأذن له. فدخل فأدى الرسالة وأراهم العلامة. فقالوا هذا سحر، فذلك قوله عز وجل: {قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} يعني: ما هذا الذي جئت به إلا كذب مختلق يعني: الذي جئت به ما هو إلا سحر قد اختلقته من ذات نفسك {وَمَا سَمِعْنَا بهذا فِى ءابَائِنَا الاولين *** وَقَالَ مُوسَى} قرأ ابن كثير بغير واو. وقرأ الباقون بالواو، فمن قرأ بالواو، فهو عطف جملة على جملة، ومن قرأ بغير واو، فهو استئناف قال موسى: {رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ} يعني: أنا جئت بالهدى من عند الله {وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} يعني: هو أعلم بمن تكون له الجنة والنار. ويقال: بمن يكون له عاقبة الأمر والدولة. قرأ حمزة والكسائي، {وَمِنْ *** يَكُونَ} بلفظ التذكير وقرأ الباقون {تَكُونُ} بلفظ التأنيث. ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} يعني: لا يأمن الكافرون من عذابه {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لأهل مصر {فِرْعَوْنُ ياأيها الملا مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} فلا تطيعوا موسى وهذه إحدى كلمتيه التي أخذه الله بهما. والأخرى. {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24]. ثم قال: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين} أي: أوقد النار على اللبن حتى يصير آجراً. قال مقاتل: وكان فرعون أول من طبخ الآجر وبنى به {فاجعل لّى صَرْحاً} أي: قطراً طويلاً منه، وهو المنارة {لَّعَلّى أَطَّلِعُ} السماء {إلى إله موسى} يعني: وأقف عليه، فبنى الصرح، وكان بلاطه خبث القوارير، وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الرياح، وكان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع، فلما فزع من بنائه جاء جبريل عليه السلام فضرب جناحه على الصرح، فهدمه ثم قال تعالى: {وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} أي: أحسب موسى بما يقول أن في السماء إلهاً من الكاذبين.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)} قوله عز وجل: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض} يعني: استكبر فرعون عن الإيمان هو وقومه {بِغَيْرِ الحق} يعني: بغير حجة {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ} يعني: وحسبوا أنهم {إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بعد الموت. قرأ نافع وحمزة والكسائي {لاَ يَرْجِعُونَ} بنصب الياء، وكسر الجيم. وقرأ الباقون بضم الياء، أي: لا يردون بمعنى التعدي قول الله تعالى: {فأخذناه وَجُنُودَهُ} يعني: عاقبناه وجنوده {فنبذناهم فِى اليم} يعني: أغرقناهم في البحر وقال مقاتل في النيل {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} يعني: المشركين {وجعلناهم أَئِمَّةً} يعني: خذلناهم حتى صاروا قادة ورؤساء للضلال والجهال {يَدْعُونَ إِلَى النار} يعني: إلى عمل أهل النار. ويقال: إلى الضلالة التي عاقبتها النار {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} يعني: لا يمنعون من عذابي {وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} أي: عقوبة وهو الغرق {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} أي: من المهلكين. والعرب تقول: قبحه الله أهلكه الله. ويقال: {وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} وذلك أنهم لما أهلكوا لعنوا، فهم يعرضون على النار غدوة وعشية إلى يوم القيامة، ويوم القيامة هم من المقبوحين الممقوتين المهلكين. ويقال: {مّنَ المقبوحين}، أي: من المعذبين ويقال: إنه قبح صورتهم. ويقال: {مّنَ المقبوحين}، أي من: المشوهين. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني: أعطيناه التوراة {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} بالعذاب أي: من بعد قوم نوح وعاد وثمود {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} يعني: هلاكهم بصيرة للناس وغيرهم. ويقال: بصائر. يعني: الكتاب بياناً لبني إسرائيل، ومعناه: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب *** بَصَائِرَ} أي مبيناً للناس {وهدى} من الضلالة لمن عمل به {وَرَحْمَةً} لمن آمن به من العذاب {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لكي يتعظوا، فيؤمنوا بتوحيد الله {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} أي: ما كنت يا محمد بناحية الجبل من قبل المغرب {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر} يعني: إذ عهدنا إليه بالرسالة. ويقال: أحكمنا معه، وعمدنا إليه بأمرنا ونبينا {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} يعني: حاضرين لذلك الأمر {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} أي الأجل فنسوا عهد الله ونسوا أمره {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مقيماً في أهل مدين {تَتْلُو عَلَيْهِمْ *** ءاياتنا} يعني: تتلو على أهل مكة القرآن يعني: أن الله تعالى أعلمك أخبار الأمم الماضية من حديث موسى وشعيب عليهما السلام ليكون علامة لنبوتكم حيث يخبرك بخبر موسى، ولم تكن حاضراً هناك، ولم تكن تقرأ القرآن {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إليك لتخبرها بخبر أهل مدين، وبخبر موسى. ويقال: {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} يعني: أرسلناك رسولاً، وأنزلنا هذه الأخبار، لتخبرهم لولا ذلك لما علمتها.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} قوله عز وجل: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} يعني: بناحية الجبل الذي كلّم الله به موسى. يعني: عن يمين موسى، ولولا ذلك {إِذْ نَادَيْنَا} يعني: كلمنا موسى. ويقال: إذ نادينا أمتك، وذلك أن الله تعالى لما وصف نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأحب موسى أن يراهم قال الله تعالى لموسى: إنك لن تراهم وإن أحببت أسمعتك كلامهم، فأسمعه الله تعالى كلامهم، وقال أبو هريرة رضي الله عنه معنى قوله: {إِذْ نَادَيْنَا} يعني: نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وروى أن عمر عن ابن مدرك عن أبي زرعة قال: نرفع الحديث في قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا}. قال: نودي يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني. وعن عمرو بن شعيب قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} ما كانَ النِّدَاءُ، وَمَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ قَالَ: «كِتَابٌ كَتَبَهُ الله تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ بألْفَيْ عَامٍ، وَسِتِّمائَةِ عَامٍ عَلَى وَرَقَةِ أمْنٍ، ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ، ثُمَّ نَادَى يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، أعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسْتَغْفِرُونِي، فَمَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ، يَشْهَدُ أنْ لاَ إله إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ أَدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ». ثم قال: {ولكن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ} يعني: القرآن نعمة من ربك حيث اختصصت به نصب رحمة، لأن معناه فعلنا ذلك للرحمة، كقوله: فعلت ذلك ابتغاء الخير، يعني: لابتغاء الخير ثم قال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم} يعني: لم يأتهم {مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} يعني: لم يأتهم رسول من قبلك، وهم أهل مكة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يعني: لكي يتعظوا. قوله عز وجل: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} يعني: عقوبة ونقمة، وفي الآية تقديم ومعناها لولا أن يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، فنتبع آياتك، ونكون من المؤمنين لعذبوا في الدنيا، ولأصابتهم مصيبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وهذا هو قول مقاتل. ويقال: معناه لولا أن يصيبهم عذاب {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ ءاياتك وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} لعذبوا في الدنيا، فيكون جوابه مضمراً. ويقال: معناه لو إني أهلكتهم قبل إرسالي، لقالوا يوم القيامة: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك} أي: يقولوا: ولولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل، فأرسلناك لكي لا يكون لهم حجة علي، ثم قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} يعني: الكتاب والرسل {قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى} من قبل يعني هلا أعطي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن جملة واحدة، كما أعطي موسى التوراة جملة يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} يعني: بالتوراة، فقد كفروا بآيات موسى، كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم {قَالُواْ سِحْرَانِ تظاهرا} يعني: تعاونا، وذلك أن أهل مكة سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنهم يجدون في كتبهم نعته وصفته فأمروهم بأن يسألوه عن أشياء فلما أجابهم. قالوا: ساحران تظاهرا {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ كافرون} يعني: جاحدين قرأ حمزة والكسائي وعاصم {سِحْرَانِ} بغير ألف، عنوا محمداً وموسى عليهما السلام ويقال: التوراة والفرقان. ويقال: التوراة والإنجيل. وقال سعيد بن جبير: يعني موسى وهارون عليهما السلام ويقال: موسى وعيسى عليهما السلام واحتج من يقرأ بغير ألف بما في سياق الآية. {قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} واحتج من قرأ بالألف بقوله تعالى: {تَظَاهَرَا} تعاونا، والتظاهر يكون بالناس يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، يعني: من التوراة، والقرآن أتبعه، أي أعمل به {إِن كُنتُمْ صادقين} بأنهما ساحران {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} يعني: إن لم يجيبوك إلى الإثبات بالكتاب {فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} بعبادة الأوثان. ويقال: يؤثرون أهواءهم على الدين {وَمَنْ أَضَلُّ} يعني: ومن أضر بنفسه {مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} يعني: بغير بيان من الله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يريد كفار مكة يعني: لا يرشدهم إلى دينه.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: ينالهم في القرآن خبر الأمم الماضية، كيف عذبوا لعلهم يتذكرون، أي لكي يخافوا فيؤمنوا بما في القرآن ويقال: ولقد وصلنا لهم القول، أي: وصلنا لهم الكتب بعضها ببعض، يعني بعضها على إثر بعض. ويقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا} أي: أوصلنا لهم القول. يعني: أنزلنا لهم القرآن آية بعد آية أنه هداية، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يعني: لكي يتعظوا. ثم وصف مؤمني أهل الكتاب فقال: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} يعني: من قبل القرآن {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} يعني: مؤمني أهل الكتاب، وهم أربعون رجلاً من أهل الإنجيل، كانوا مسلمين قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم اثنان وثلاثون من أهل أرض الحبشة، قدموا مع جعفر الطيار، وثمانية من أهل الشام. ويقال: إنهم ثمانية عشر رجلاً {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني: القرآن {قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي صدقنا {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} يعني: القرآن، وذلك أنهم عرفوا بما ذكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وكتابه فقالوا: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يعني: من قبل هذا القرآن، ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم كنا مخلصين {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} يعني: يعطون ثوابهم ضعفين مرة بكتابهم، ومرة بإيمانهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم {بِمَا صَبَرُواْ} يعني: بصبرهم على ما أوتوا. ويقال: بما صبروا، أي بصبرهم على دينهم الأول، وبما صبروا على أذى المشركين، فصدقوا وثبتوا على إيمانهم. حيث قال لهم أبو جهل وأصحابه: ما رأينا أحداً أجهل منكم، تركتم دينكم، وأخذتم دينه. فقالوا: ما لنا لا نؤمن بالله، فذلك قوله عز وجل: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} أي: يدفعون قول المشركين بالمعروف. ويقال: يدفعون الشرك بالإيمان. ويقال: يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح. ويقال: يدفعون ما تقدم لهم من السيئات بما يعملون من الحسنات {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يعني: يتصدقون. قوله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} يعني: إذا سمعوا الشتم والأذى والكلام القبيح لم يردوا عليهم، ولم يكافئوهم به ولم يلتفتوا إليه، يعني: إذا شتمهم الكفار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشتم {وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا} يعني: ديننا {وَلَكُمْ أعمالكم} يعني: دينكم {سلام عَلَيْكُمُ} يعني: وردوا معروفاً عليهم ليس هذا تسليم التحية، وإنما هو تسليم المتاركة والمسالمة، أي: بيننا وبينكم المتاركة والمسالمة، وهذا إن يؤمر المسلمون بالقتال. ويقال: السلام عليكم. يعني: أكرمكم الله تعالى بالإسلام {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} أي: لا نطلب دين الخاسرين، ولا نصحبهم. ويقال: هذه الآية مدنية نزلت في شأن عبد الله بن سلام. وروى أسباط عن السدي قال: لما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال يا رسول الله: ابعث إلى قومي فاسألهم عني فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فستر بينهم وبينه ستراً. وقال: «أَخْبِرُونِي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلامِ كَيْفَ هُوَ فِيكُمْ؟» قالوا: ذاك سيدنا وأعلمنا. قال: «أَرَأَيْتُمْ إنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي أَتُؤْمِنُونَ بِي وَتُصَدِّقُونِي؟» قالوا: هو أفقه من أن يدع دينه ويتبعك. قال: «أَرَأَيْتُمْ إنْ فَعَلَ؟» قالوا: لا يفعل. قال: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ فَعَلَ؟» قالوا: إنه لا يفعل، ولو فعل إذاً نفعل. فقال عليه السلام: «أخْرُجْ يا عَبْدَ الله». فخرج. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فوقعوا فيه، وشتموه وقالوا: ما فينا أحد أقل علماً، ولا أجهل منك. قال: «أَلَمْ تُثْنُوا عَلَيْهِ آنِفاً؟» قالوا: إنا استحينا أن نقول اغتبتم صاحبكم، فجعلوا يشتمونه وهو يقول: {سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} فقال: ابن يامني، وكان من رؤساء بني إسرائيل أشهد أن عبد الله بن سلام صادق، فابسط يدك يا محمد، فبسط يده، فبايع ابن يامني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} إلى قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} وإلى قوله: {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين}.
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)} قوله عز وجل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} يعني: لا ترشد من أحببته إلى الهدى. ويقال: من أحببت هدايته إلى دينك، وذلك أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَمَّاهُ قُلْ لا إله إِلا الله كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى». فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه ويكلمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات على الكفر فنزل {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} بهدايته {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يعني: يرشد من يشاء إلى دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} يعني: بمن قدر له الهدى. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ} يعني: مشركي مكة {إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ} يعني: الإيمان بك {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يعني: نسبى ونخرج من مكة لإجماع العرب على خلافنا، وهذا قول الحارث بن عامر النوفلي حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما كذبت كذبة قط، فنتهمك اليوم، ولكن متى ما نؤمن بك فتحسنا العرب من أرضنا يقول الله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ} يعني: أولم ننزلهم مكة حرماً أميناً يعني: كان الحرم أمناً لهم في الجاهلية من القتل والسبي، وهم يعبدون غيري، فكيف يخافون إن أسلموا أن لا يكون الحرم أمناً لهم؟ فذلك قوله: {أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ} يعني أولم ننزلهم مكة حرماً آمناً من الغارة والسبي {يجبى إِلَيْهِ} بالياء يعني: يحمل إليه {ثَمَرَاتُ كُلّ شَئ} أي: من ألوان الثمرات قرأ نافع {***تجبى} بالتاء لأن الثمرات مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء لتقديم الفعل ثم قال: {شَئ رّزْقاً مّن لَّدُنَّا} أي: من عندنا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يأكلون رزقي، ويعبدون غيري، وهم آمنون في الحرم ويقال لا يعلمون أن ذلك من فضل الله عليهم. ثم خوفهم فقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} فيما مضى {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} كفرت برزق ربها ذكر القرية، وأراد به أهل القرية يعني: أنهم كانوا ينقلبون في رزق الله تعالى: فلم يشكروه في نعمته. ويقال: بطرت معيشتها يعني: طغوا في نعمة الله، فأهلكهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا. ويقال: عاشوا في البطر وكفران النعم {فَتِلْكَ مساكنهم} يعني: انظروا واعتبروا في بيوتهم وديارهم بقيت خالية {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} وهم المسافرون ينزلون بها يوماً أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} أي: نرث الأرض ومن عليها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} يعني: لم يعذب أهل القرى {حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً} يعني: معظمها ويقال: في أكبر قراها. ويقال: أم القرى مكة. قرأ حمزة والكسائي {فِى أُمّهَا} بكسر الألف. والباقون بالضم، ومعناهما واحد يبعث في أمها رسولاً {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} يعني: القرآن {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} يعني: لم نهلكها إلا بظلم أهلها. ثم قال عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شَئ} يعني ما أعطيتم من مال. ويقال: ما أعطيتم من الدنيا، فهو {فمتاع الحياة الدنيا} يعني: فهو متاع الحياة الدنيا، ينتفعوا بها أيام حياتهم {وَزِينَتَهَا} يعني: وزهراتها ولا تبقى دائماً {وَمَا عِندَ الله} من الثواب والجنة {خَيْرٌ وأبقى} يعني: أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني. قرأ عمرو {يَعْقِلُونَ} بالياء على معنى الخبر عنهم. وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
|